خطبة الجمعة 20 مايو: الزارعُ المُجِدُّ

 

الجمعة 19 شوال 1443هـ

  الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، القائلِ في كتابِهِ الكريمِ: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنَا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ عليهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ، ومَن تبعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وبعدُ:


أولًا: حثَّ الإسلامُ علي الزراعةِ

 

  لقد حثَّ الإسلامُ على الزرعِ والغرسِ، فمِن نعمِ اللهِ تعالى على عبادهِ نعمةُ الأرضِ التي فرشَهَا الخالقُ بينَ أيديهِم وجعلَهَا قرارًا، وأجرَى في مناكبِهَا عيونًا وأنهارًا، فأنبتتْ زروعًا وثمارًا، بعد أنْ أرسلَ اللهُ السماءَ مدرارًا، ومِن المعلومِ أنَّ اللهَ لم يخلقْ الإنسانَ عبثًا، وإنَّما خلقهُ وفضَّلَهُ على كثيرٍ مِن خلقِهِ، ليقومَ برسالةٍ ساميةٍ في هذه الحياةِ، فقد استخلفَهُ في الأرضِ وكرّمَهُ بالعقلِ، وحمَّلَهُ مسؤوليةَ عمارةِ الأرضِ والحفاظِ على خيراتِهَا، وخلقَ لهُ هذه الأرضَ ذلولًا سهلةً ليتمكنَ مِن السيطرةِ عليها، وتسخيرِهَا لخدمتِهِ.


  وقد اقتضتْ حكمةُ اللهِ البالغةُ أنْ يعيشَ الإنسانُ على هذه الأرضِ ويستقرَّ في ربوعِهَا وأرجائِهَا إلى حينٍ، كما قالَ تعالى: (ولكُم في الأرضِ مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ)( في سورة البقرة: 36)، ولا يمكنُ للإنسانِ الذي شرفَهُ اللهُ باستخلافِهِ في الأرضِ، وحمَّلَهُ مسؤوليةَ عمارتِهَا أنْ يعيشَ فوقَهَا إلّا إذا قامَ بهذه الرسالةِ الساميةِ، وذلك بالعملِ المتواصلِ على استخراجِ كنوزِهَا وخيراتِهَا و استغلالِ مكنوناتِهَا، وهذا لا يتأتَّى لهُ إلَّا بواسطةِ زراعتِهَا وغرسِهَا بجدٍ ونشاطٍ دائمين لعلَّهُ يقومُ بالأمانةِ الثقيلةِ التي حملَهَا، وهي المشيُ والسعيُ في ارجاءِ الأرضِ؛ بحثًا عن الرزقِ الذي ضمنَهُ الخالقُ عزَّ وجلَّ للمشتغلين ا لعاملينَ السالكينَ منها سبلًا فجاجًا، ولاشكَّ أنَّ الزراعةَ والغراسةَ يمثلُ كلٌّ منهما في عصرِنَا الحاضرِ إحدَى الركائزِ الاقتصاديةِ لأيِّ شعبٍ يطمحُ في الازدهارِ الاقتصادِي، وزيادةِ الدخلِ الوطنِي، والاكتفاءِ الغذائِي الذاتِي.


  وقد وردتْ عدةُ آياتٍ قرآنيةٍ وأحاديثٍ نبويةٍ تحثُّ كلُّهَا على الانشغالِ بالزراعةِ والغراسةِ، وتبينُ فضلَهَا ومكانتَهَا، ومِن تلك الآياتِ ما وردَ وفيهِ لفتُ الأنظارِ إلى نعمةِ اللهِ بإعدادِ الأرضِ للزراعةِ بواسطةِ نزولِ المطرِ: (فلينظرِ الإنسانُ إلى طعامِهِ أنَّا صببنَا الماءَ صبًّا ثم شققنَا الأرضَ شقًّا فأنبتنَا فيها حبًّا وعنبًا وقضبًا وزيتونًا ونخلًا وحدائقَ غُلبًا وفاكهةً وأبًّا متاعًا لكُم ولأنعامِكُم)( سورة عبس: 24 ــ32)،  وقالَ تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ }(الواقعة: 63، 64)، وحثَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلم على الزرعِ والغرسِ، فعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي اللهُ عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ"(متفق عليه).


ثانيًا: الصفاتُ الواجبُ توافرهَا في الزارعِ المُجدِّ


 للزارعِ المُجدِّ منزلةٌ عظيمةٌ ومكانةٌ ساميةٌ؛ فهو يسهمُ في قوةِ الوطنِ وتحقيقِ استقرارِهِ وتحقيقِ فرصِ عملٍ لمواطنيهِ؛ فالأمةُ التي لا تملكُ غذاءَهَا لا تملكُ قرارَهَا، والزارعُ بجدِّهِ في زراعتهِ يحققُ الفلاحَ لنفسهِ ولوطنهِ، في همةٍ عاليةٍ، وتضحيةٍ صادقةٍ، ممتثلًا قولَ الحقِّ سبحانَهُ: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(التوبة: 105)، وهناكَ صفاتٌ واجبٌ توافرهَا في الزارعِ المُجدِّ منها:


1ـ  ألَّا تُلهيه زراعتُهُ عن طاعةِ اللهِ:

 فإنَّ هناك واجباتٍ عينيةً وكفائيةً لا بدَّ مِن مُراعاتِهَا وعدمِ الإخلالِ بشيءٍ منها على حسابِ ما يقومُ بهِ مِن عملٍ زراعيٍّ، قالَ تعالَى : (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة: 10).


2ـ وجوبُ التخطيطِ:

 يجبُ على المزارعِ أنْ يكونَ على أتمِّ استعدادٍ لما سيواجههُ في عملهِ أو حياتهِ في المستقبلِ، فالزارعُ المجدُّ لا يعرفُ الارتجالَ والعشوائيةَ، إنَّمَا يعملُ بتخطيطٍ واعٍ، وأخذٍ بأسبابِ العلمِ والعملِ، والمتأملُ في قصةِ سيدِنَا يوسفَ (عليه السلامُ) في القرآنِ الكريمِ، يلمحُ مشروعَ تخطيطٍ للاقتصادِ الزراعيِّ أسسَهُ نبيُّ اللهِ الكريم، بعدمَا علمَ مِن خلال الرؤيَا الصادقةِ بأزمةٍ غذائيةٍ ستصيبُ المنطقةَ كلَّهَا، فاقترحَ خطةَ إصلاحٍ ونفذَهَا، فكان فيها الخيرُ والبركةُ على مصرَ وما حولَهَا، حيثُ يقولُ سبحانَهُ: { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ*  ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذاٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰالِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)(يوسف: 47ـ49) . 


3ـ الزارعَ المجدَّ يستشيرُ أهلَ الخبرةِ والعلمِ والاختصاصِ في زراعتِهِ

، ليقدمَ منتجًا عالِي الجودةِ ينفعُ وطنَهُ ومجتمعَهُ، ممتثلًا قولَ الحقِّ سبحانَهُ: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(النحل: 43).


4ـ كمَا أنَّ الزارعَ المجدَّ ينطلقُ مِن وطنيتِهِ

 في تسويقِ محصولِهِ بعدَ حصادِهِ بلا تأخيرٍ، ولا حبسٍ، ولا احتکارٍ، فهو لا يعرفُ استغلالًا لأزماتِ الناسِ ولا متاجرةً بمعاناتِهِم، وقد حرمَ الإسلامُ كلَّ صورِ الاحتكارِ والتضييقِ على الناسِ، حيثُ يقولُ نبيُّنَا (صلَّی اللهُ عليه وسلم): (لا يحتكرُ إلا خاطئٌ)(رواه مسلم).


5ـ استحضارُ النيةِ:

 إنَّ الإنسانَ إذا استحضرَ النيةَ في أيِّ عملٍ مباحٍ فإنَّهُ يؤجرُ عليهِ، فالغرسُ في الأرضِ عملٌ مباحٌ، فإذا نوى الإنسانُ إعفافَ نفسِهِ، والنفقةَ على عيالِهِ، وأن يَنْفِي عن نفسهِ الفقرَ، أو يأكلَ منهُ إنسانٌ، أو طيرٌ، أو حيوانٌ، فإنَّهُ يُثابُ عليهِ، فينبغِي للمؤمنِ أنْ تكونَ لهُ همةٌ عاليةٌ ، ونيةٌ طيبةٌ في كلِّ أعمالِهِ، زراعةٍ ، غراسةٍ ، سقيَ ماءٍ ، أو أيِّ شيءٍ ينفعُ الناسَ، وأنْ تكونَ لهُ فيهِ نيةٌ صالحةٌ، يرجو فيها ثوابَ اللهِ، كالزرعِ والغرسِ، وإيجادِ مصانعِ الماءِ للناسِ ،ومحلِ وردٍ للناسِ، وتسهيلِ الطريقِ، وإزالةِ الأذىَ مِن الطرقِ، إلى غيرِ هذا مِن وجوهِ الخيرِ، والصدقةِ بالقليلِ، ففي الصحيحينِ: (عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ – صلَّى اللهٌ عليه وسلم – « اتَّقُوا النَّارَ » . ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ، ثُمَّ قَالَ « اتَّقُوا النَّارَ » . ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلاَثًا ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ، ثُمَّ قَالَ « اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ».

  الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على خاتمِ الأنبياءِ والمرسلين، سيدِنَا محمدٍ (صلَّى اللهُ عليه وسلم)، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين.

ثالثًا: الزراعةُ وأثرُهَا على تقدمِ الأممِ


  تلعبُ الزراعةُ دورًا أساسيًّا في اقتصادِ البلادِ، ليس بسببِ توفيرِهَا للغذاءِ فحسب، ولكنْ لمساهمتِهَا في زيادةِ التواصلِ والتفاعلِ مع جميعِ الصناعاتِ الأُخرى ذاتِ الصلةِ في داخلِ البلدِ، حيثُ يُعتقدُ بأنّ الدولةَ تكونُ أُمّةً مُتحدَةً اجتماعيًّا، وسياسيًّا، ومُكتفيةً اقتصاديًّا إذا كانتْ مُستقرّةً زراعيًّا.


  وتُوفّرُ الصناعاتُ الزراعيةُ العديدَ مِن الوظائفِ في العديدِ مِن المجالاتِ، سواءٌ أكانَ الشخصُ مزارعًا، أو حصّادًا، أو فنيِّ آلاتٍّ زراعيةٍ، أو عالمِ نباتاتٍ، كما يُعدُّ إنشاءُ شبكاتٍ للريِّ، ونظامٍ للصرفِ الصحِي وغيرِهَا ممّا يتعلّقُ بالزراعةِ مِن الأمورِ التي تُساهِمُ في توفيرِ فرصِ عملٍ أكبر للقوىَ العاملةِ، وتقليلِ مُعدّلاتِ البطالةِ في الدولِ الناميةِ ممّا يُساهِمُ في الحدِّ مِن الفقرِ، ويجدرُ بالذكرِ أنَّ الزراعةَ تُعتبرُ عندَ الكثيرِ مِن الحضاراتِ والثقافاتِ أسلوبَ حياةٍ وليستْ مهنةً فقط.

  والزراعةُ سببٌ لتقدمِ الأممِ والشعوبِ، والزراعةُ نعمةٌ تستحقُّ منَّا الشكرَ، ونهرُ النيلِ نعمةٌ تستوجبُ منَّا الشكرَ، وصدقَ ربُّنَا إذ يقولُ ﴿وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴾(يس: ٣٥)،وقال تعالي: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾(الملك : 15)

  وفي مجالِ المحافظةِ على الصحةِ، تُعدُّ الزراعةُ المصدرَ الأساسِي للغذاءِ في العالمِ، إذ تُنتجُ الخضرواتُ والفواكهُ المُساعِدةُ على الهضمِ، والبروتيناتُ المهمّةُ للجسمِ عن طريقِ زراعةِ البقولياتِ مثلَ الفاصولياء، كما تُزوّدُ الكربوهيدراتُ جميعَ الكائناتِ الحيةِ بالطاقةِ، ويُمكنُ الحصولُ عليهَا مِن الحبوبِ، مثل: الأرزِ، والقمحِ، بالإضافةِ إلى الدهونِ والزيوتِ الضروريةِ لإمدادِ الجسمِ بالحرارةِ، إذ يتمُّ الحصولُ عليهَا عن طريقِ زراعةِ الفولِ السودانيِّ، والسمسمِ، ودوّارِ الشمسِ، بالإضافةِ إلى ذلك تُستخدمُ الزهورُ للزينةِ، وكمصدرٍ غنيٍّ للعطورِ، وموادِ التلوينِ.

  والزراعةُ والغرسُ مِن الأعمالِ التي تَبقَى للرجلِ بعدَ موتهِ فعن أنسٍ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم قال: (سَبْعَ يجْرِي للْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ وهو في قبره بَعْدَ مَوْتِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كْرَى نَهْرًا، أَو حَفْرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلاً، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بعد موته)(رواه بن حبان).

اللهم احفظْ بلادَنَا مصرَ وسائرَ بلادِ العالمين

الدعاءُ،،،                                                                 وأقمْ الصلاةَ،،،


كتبه: فضيلة الشيخ/ طه ممدوح عبد الوهاب

إمام وخطيب بوزارة الأوقاف

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك