خطبة الجمعة 19 أغسطس: الآياتُ الكونيةُ في القرآنِ

 

خطبة الجمعة 21 من المحرم 1443 هـ

الحمدُ للهِ القائلِ في محكمِ التنزيلِ ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت: 53)، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه ، وَأشهد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وصفيُّهُ مِن خلقهِ وخليلُهُ، اللهم صلِّ وسلمْ وزدْ وباركْ على النبيِّ  المختارِ وعلى آلهِ وأصحابهِ الأطهارِ وسلمْ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين. أمَّا بعدُ …..فأوصيكُم ونفسِي أيُّها الأخيارُ بتقوى العزيزِ الغفارِ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )(آل عمران :102).

عبادَ الله ): الآيات الكونية في القرآن ))عنوانُ وزارتِنَا وعنوانُ خطبتِنَا. 


 أولًا: الآياتُ الكونيةُ دليلٌ على عظمةِ خلقِ اللهِ.

ثانيـــًا: الآياتُ الكونيةُ دليلٌ على وجودِ الخالقِ جلَّ شأنهُ

ثالثـــًا وأخيرًا: الكونُ كلُّهُ مسخرٌ لك أيُّها الإنسانُ، أفلا تعقل !


أولًا: الآياتُ الكونيةُ دليلٌ على عظمةِ خلقِ اللهِ.


أيُّها السادةُ: إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي هَذَا الْكَوْنِ الْوَاسِعِ يرى عظمةَ وقدرةَ اللهِ جلَّ وعلا ومعجزاتِهِ ويتعجبُ لقدرتهِ التي لا يستطيعُ أحدٌ أنْ يأتي ولو بقليلٍ منها، حيثُ يزدادُ العبدُ إيمانًا وتقربًا إلى اللهِ تباركَ وتعالى، فكلُّ شيءٍ في السماءِ والأرضِ مدبرٌ بأمرٍ مِن اللهِ جلَّ وعلا، وإنّ المخلوقاتِ كلَّهَا في يدِ اللهِ تعالى لا تنفكُّ عن محضِ علمهِ وقدرتهِ وتدبيرهِ، يدبرُ الأمرَ ويرسلُ الرياحَ وينزلُ الغيثَ، وكلمةُ الكونِ لا تشملُ فقط السماءَ وما فيها مِن قمرٍ وشمسٍ ونجومٍ وغيرِهَا، فهذه نظرةٌ محدودةٌ جدًا، حيثُ إنّ الكونَ يشتملُ على كافةِ المخلوقاتِ الكائنةِ فيه، وجميعِ ما يتعلّقُ بها ويرتبطُ بها مِن قوى وعملياتٍ متعددةٍ في الزَّمانِ والمكانِ، فمفهومُ الكونِ واسعُ النطاقِ بل أوسعُ مِمّا يتصورُهُ الإنسانُ، وأكبرُ مِمّا يتخيلُهُ العقلُ , والآياتُ الكونيةُ في القرآنِ كثيرةٌ وعظيمةٌ تدلُّ على قدرةِ اللهِ وعظمتهِ جلَّ شأنُهُ  منها على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ: خلقُ السماواتِ والأرضِ، واختلافُ الليلِ والنهارِ، وطلوعُ الشمسِ والقمرِ، وهبوبُ الرياحِ ونزولُ الأمطارِ، والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدوابُّ، والزلازلُ والفيضاناتُ والعواصفُ آيةٌ مِن آياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ، تدلُّ على العظمةِ والسلطانِ والجبروتِ وأشياءَ كثيرةٍ لا تُحصى كلّهَا مِن آياتِ اللهِ الكونيةِ.


فمَن نظرَ إلى السماءِ وحسنِهَا وكمالِهَا، وارتفاعِهَا وقوتِهَا، أيقنَ  قدرتَهُ وعظمتَهُ  وأبداعَهُ سبحانَهُ لهذا الكونِ العملاقِ قال جلَّ وعلا : ((أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا)النازعات:27 - 28.قال جلًّ وعلا ((وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)[الذاريات: 47 قال جلَّ وعلا ((فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ)((الملك: 3 – ,4 ) قال جلَّ وعلا : ((أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ((ق: 6. قال تعالى: ((وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ(( بل ومَن نظرَ إلى الأرضِ واتساعِهَا وكيف مهدَهَا اللهُ جلَّ وعلا لعبادهِ، وسلكَ لنَا فيها سبلًا لأيقنَ عظمةَ وقدرةَ الخالقِ سبحانَهُ قال جلَّ وعلا : (( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا(((فصلت:10) ويسرَهَا لعبادهِ سبحانَهُ، فجعلَهَا لهم ذلولًا يمشونَ في مناكِبِهَا ويأكلونَ مِن رزقهِ، فيحرثونَ ويزرعونَ ويستخرجونَ منها الماءَ، فيسقونَ ويشربونَ. وكيف جعلَهَا اللهُ -تعالى- قرارًا للخلقِ لا تضطربَ بهم، ولا تزلزلَ بهم إلَّا بإذنِهِ سبحانَهُ قال جلَّ وعلا :((وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ((الذاريات: 20) وقال جلَّ وعلا: ( وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ)(الرعد: 4)مختلفةٌ في ذاتِهَا وصفاتِهَا ومنافعِهَا. وجعلَ فيها سبحانَهُ جناتٍ قال جلَّ وعلا ((مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ(الرعد:4 .


ومِن آياتهِ –سبحانَهُ -: اختلافُ الليلِ والنهارِ، فالليلُ جعلَهُ سكنًا للعبادِ يسكنونَ فيهِ، وينامونَ ويستريحون, والنهارُ جعلَهُ معاشًا للناسِ يبتغونَ فيهِ مِن فضلِ اللهِ  قال جلَّ وعلا)) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (القصص: 71 – 73.


ومِن آياتِ اللهِ -سبحانَهُ-: الشمسُ والقمرُ، يجريانِ بسيرٍ منتظمٍ، لا تغيّرَ فيهِ ولا انحراف، ولا فسـادَ ولا اختلاف، قال جلَّ وعلا ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ... ﴾ (يس: 38، 39 ) وفي صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ أبي ذرٍ رضى اللهُ عنه قال :قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: أتَدْرِي أيْنَ تَذْهَبُ؟ قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: فإنَّهَا تَذْهَبُ حتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ، فيُؤْذَنُ لَهَا، ويُوشِكُ أنْ تَسْجُدَ، فلا يُقْبَلَ منها، وتَسْتَأْذِنَ فلا يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِن حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِن مَغْرِبِهَا، فَذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} يس  38.قال جلَّ وعلا: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ (فصِّلت: 37) فمَن الذي سيّرَ أفلاكَهَا؟! ومَن الذي نظّمَ مَسارَهَا وأشرفَ على مدارِهَا؟! ومَن أمسكَ أجرامَهَا ودبّرَ أمرَهَا؟! ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ الأنعام: 91، قال جلَّ وعلا﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ))فاطر: 41، قال جلَّ وعلا ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ النمل: 88

ومِن آياتِ اللهِ -سبحانَهُ-: النجومُ ومدارُهَا، فالنجومُ خُلقتْ لنهتدِيَ بها في ظلماتِ البرِّ والبحرِ قال جلَّ وعلا (( وهو الذَّي جعل لكم النُّجوم لتهتدوا بها في ظلمات البّرِ والبحرِ قد فصِّلنا الآيات لقومٍ يعلمون )) الأنعام : 97 


 ومِن آياتِ اللهِ -سبحانَهُ-: زلازلُ مدمرةٌ وأوبئةٌ وأمراضٌ مهلكةٌ وأعاصيرُ عاتيةٌ وأمواجٌ وفيضاناتٌ طاغيةٌ وحرائقٌ مخيفةٌ ورياحٌ تسيرُ بسرعاتٍ مذهلةٍ وجنودٌ غيرُ متناهيةٍ ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ﴾ المدثر: 32 , وآياتٌ مسخراتٌ لا تطيقُها الطاقاتُ ولا تقدرُ عليها القدراتُ ولا تنفعُ معها التنبؤاتُ والترصداتُ، قال جلَّ وعلا﴿ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ (النحل: 45 – 47)ويقولُ سبحانَهُ وتعالى: ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾ الملك: 16، 17.فسبحانكَ ربَّنَا ما أعظمَك فلا قدرةَ فوقَ قدرتِكَ ولا قوةَ فوقَ قوتِكَ تخلقُ ما تشاءُ وتأمرُ بمَا تشاءُ وتمسكُ ما تشاءُ عمَّن تشاءُ وترسلُ ما تشاءُ إلى مَن تشاءُ، سبحانَك ما أعظمكَ هواءٌ وماءٌ وأرضٌ وسماءٌ وبرٌّ وبحرٌ ونجومٌ وكواكبُ وإنسٌ وجنٌّ ومخلوقاتٌ كثيرةٌ ما لا نعلمُهُ منها أكثر ممَّا نعلمُهُ ومالا نراهُ منها أكثر مِن الذي نراهُ، وكلُّهُم جنودٌ للهِ خاضعونَ لعظمةِ اللهِ جلَّ جلالهِ. فمَن تأملَ في هذا كلِّه علمَ وأيقنَ كمالَ قدرةِ اللهِ -تعالى-، ورحمتهِ بعبادهِ، وعظمتهِ سبحانَهُ، وأبداعهِ في خلقهِ..


 وللهِ درُّ القائلِ:

بك أستجيرُ ومَن يجيرُ سواكَا *** فأجرْ ضعيفًا يحتمِي بحماكَ
إنِّي ضعيفٌ أستعينُ على قوىَ *** ذنبِي ومعصيتِي ببعضِ قواكَا
أذنبتُ ياربِّي وآذتنِي ذنوبٌ *** مالَها مِن غافرٍ إلّا كَا
دنياي غرتنِي وعفوكَ غرنِّي *** ماحيلتِي في هذهِ أو ذا كَا
يا غافرَ الذنبِ العظيمِ وقابلًا *** للتوبِ قلبٌ تائبٌ ناجاكَا
أتردَّهُ وتردَّ صادقَ توبتِي *** حاشَاكَ ترفضُ تائبًا حاشاكَ
فليرضَ عنِّي الناسُ أو فليسخطُوا *** أنَا لم أعدْ أسعَى لغيرِ رضاكَا

ثانيـــًا: الآياتُ الكونيةُ دليلٌ على وجودِ الخالقِ جلَّ شأنُهُ.


أيُّها السادةُ: لفتَ اللهُ جلَّ وعلا الأنظارَ إلى الآياتِ الكونيةِ الدالةِ على وحدانيتهِ ورحمتهِ في قرآنهِ فقال جلَ وعلا :((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 164)،بعدَ أنْ قالَ وهو أصدقُ القائلين  (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (البقرة:163 ) إنَّها دعوةٌ إلى التدبرِ في الكونِ وتأمّلِ مدى دقتهِ وتناسقِ نواصيهِ وأجزائهِ. فالكونُ مليءٌ بالآياتِ القرآنيةِ الدالةِ على وحدانيةِ اللهِ، وصدقِ رسولِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم. قالَ جلَّ وعلا ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت53 فالكونُ كلُّهُ خلقًا وتدبيرًا يشهدُ بوحدانيةِ اللهِ.. قال ربُّنَا (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 54.

فهو سبحانَهُ خلقَ السماواتِ والأرضَ.. وجعلَ اختلافَ الليلِ والنهارِ.. ونوَّعَ أصنافَ الجمادِ والنباتِ والثمارِ.. وخلقَ الإنسانَ والحيوانَ.. كلُّ ذلك يدلُّ على أنَّ الخالقَ العظيمَ واحدٌ لا شريكَ لهُ.. (ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ) غافر/62. وتنوعُ هذه المخلوقاتِ وعظمتُهَا.. وإحكامُهَا وإتقانُهَا.. وحفظُهَا وتدبيرُهَا كلُّ ذلك يدلُّ على أنَّ الخالقَ واحدٌ يفعلُ ما يشاءُ.. ويحكمُ ما يريدُ.. (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) الزمر/62. فالآياتُ تبينُ   أنَّ لهذا الخلقِ خالقًا.. ولهذا المُلكِ مالكًا.. ووراءَ الصورةِ مصورٌ.. (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ) الحشر24. وصلاحُ السماواتِ والأرضِ.. وانتظامُ الكونِ.. وانسجامُ المخلوقاتِ مع بعضِهَا.. يدلُّ على أنَّ الخالقَ واحدٌ لا شريكَ لهُ.. (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) الأنبياء/22.


قال جلًّ وعلا ((أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [النمل: 60- 64 . ولما سُئل َالأعرابيُّ: ما الدليلُ على وجود ِاللهِ؟ فقالَ: الأثرُ يدلُ على المسيرِ، والبَعْرَةُ تدلُ على البعيرِ، فسماءٌ ذاتُ أبراجٍ وأرضٌ ذاتُ فجاجٍ وبحارٌ ذاتُ أمواجٍ ألا يدلُّ ذلك على السميعِ البصيرِ؟


بل هناك مشاهدُ كوْنيةٌ تتكرَّرُ في الصباحِ والمساءِ، وهي جزْءٌ مِنْ عظمةِ اللهِ في كوْنهِ، وآيةٌ على وحْدانيتهِ، وداعيةٌ إلى العبوديةِ والشكْرِ لهُ سبْحانَهُ قال ربُّنَا ﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴾ يس: 33 - 36،

وفي كلِّ شيءٍ لهُ آيةٌ *** تدلُّ على أنَّهُ الواحدُ


وسُئِلَ الشافعيُّ رحمَهُ اللهُ ما الدليلُ على وجودِ اللهِ قال: ورقةُ التوتِ طعمُهَا واحدٌ، لكنْ إذا أكلَهَا دودُ القزِّ أخرجَهَا حريرًا، وإذا أكلَهَا النحلُ أخرجَهَا عسلًا، وإذا أكلَهَا الظبيُ أخرجَهَا مسكًا ذا رائحةٍ طيبةٍ.. فمَن الذي وحدَ الأصلَ وعددَ المخارجَ؟! !!!


للهِ في الآفاقِ آياتٌ لعلَّ *** أقلّهَا هو ما إليهِ هداكَا
ولعلَّ ما في النفسِ مِن آياتهِ *** عجبٌ عجابٌ لو ترى عيناكَا
والكونُ مشحونٌ بأسرارٍ إذا *** حاولتَ تفسيراً لهَا أعياكِا


أقولُ قولِي هذا واستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم..............


الخطبةُ الثانيةُ


 الحمدُ للهِ ولا حمدَ إلَّا لهُ وبسمِ اللهِ ولا يستعانُ إلّا بهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ  ......        وبعدُ    


ثالثـــًا وأخيرًا: الكونُ كلُّهُ مسخرٌ لك أيُّها الإنسانُ أفلا تعقل!


أيُّها السادةُ: لقد كرَّمَ اللهُ الإنسانَ تكريمًا كبيرًا، خلقَهُ بيدهِ ونفخَ فيهِ مِن روحهِ وأسجدَ لهُ ملائكتَهُ، وصورَهُ فأحسنَ تصويرَهُ فتباركَ اللهُ أحسنُ الخالقين، قالَ ربُّنَا  { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا  } (سورة  الإسراء(70). وسخرَ لهُ ما في السمواتِ وما في الأرضِ جميعًا منهُ فقالَ جلَّ وعلا ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ الجاثية13 فهل تفكرتَ في هذا كلِّهِ ؟ فهل عبدتَ اللهَ حقَّ عبادتِهِ ؟وهل شكرتَ اللهَ حقَّ شكرِهِ ؟ وهل ذكرتَ اللهَ حقَّ ذكرِهِ ؟ فالكونُ كلُّهُ عابدٌ لربِّهِ؛ وهو مسخرٌ لكَ أيُّها الإنسانُ لعلكَ تعقلُ وتفكرُ وترجعُ لربِّكَ قبلَ فواتِ الأوانِ، فكلُّ مخلوقاتِهِ تسبحُ بحمدِهِ سبحانَهُ وتعالى، قال تعالى:((يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ))الجمعة: 1 ، وتسجدُ لعظمتِهِ، قال جلَّ ثناؤُهُ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج: 18 لذا فإنَّ المستحقَّ للعبادةِ هو واحدٌ فقط هو الواحدُ الأحدُ الوترُ الصمدُ الذي لا ضدَّ لهُ ولا ندَّ لهُ ولا شبيهَ لهُ لا والدَ لهُ ولا ولدَ لهُ، أليسَ هو الذي خلقَكَ فسواكَ فعدلكَ في أيِّ صورةٍ ما شاءَ ركبَك أليس هو الذي خلقكَ مِن طينٍ ثم كنتَ بعدَ ذلك نطفةً في قرارٍ  مكينٍ { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) }سورة  المؤمنون آية (13)، (14)، خلقكَ في بطنِ أمِّكَ وأغشَي وجهَكَ بغشاءّ حتى لا تؤذِيكَ رائحةُ الطعامِ، وجعلَ لك متكئًا عن يمينِكَ وهو الكبدُ، ومتكئًا عن يسارِكَ وهو الطحالُ، فلما تمتْ مدتُكَ ،أخرجَكَ مِن بطنِ أمِّكَ لا لكَ يدٌ تبطشُ بها ،ولا أذنٌ تسمعُ بها، ولا رجلٌ تمشِي بها ،وانبعَ لك عرقين في صدرِ أمِّك يخرجانِ لكَ لبنًا  حارًّا  في الشتاءِ، ولبنًا  باردًا في الصيفِ ،وألقَ اللهُ محبتَكَ في قلوبِ الأبوينِ فلا يأكلانِ حتى تأكلَ معهم، ولا يشبعانِ حتى تشبعَ، ولا يرقدانِ حتى ترقدَ، فلما قوِيَ ظهرُكَ، واشتدَّ أزرُكَ بارزتَهُ بالمعاصِي ولم تستحِ منهُ ومع ذلك إنْ تبتَ إليهِ قبِلَكَ، وإنْ عدتَ إليهِ أجابَ دعوتَكَ ؟أليس يستحقُّ العبادة مِن خلقَ هذا الكونَ وسخرَهُ لك بكلِّ ما فيهِ، فالملكُ ملكُه، والأرضُ أرضُه، والسماءُ سمائُه، أفلا يستحقُّ أنْ نعبدَهُ ولا نشركَ بهِ أحدًا؟ ألا تنظر إلي السماءِ وارتفاعِهَا وإلى الأرضِ وأقطارِهَا، وإلى النجومِ ومدراهَا وإلى البحارِ وأمواجِهَا، وإلى الشمسِ وشعاعِهَا، وإلى كلِّ ما هو راكعٌ وساجدٌ ومستيقظٌ وراقدٌ، الكلُّ يشهدُ بجلالهِ و يقرُّ بكمالهِ ويعلنُ عن ذكرِه ولا يغفلُ عن شكرِه، فكُنْ مِن الشاكرين وكُنْ مِن الذاكرين وكُنْ مِن الساجدين وكُنْ مِن التائبين وكُنْ مِن النادمين تسعدْ في الدنيا والآخرةِ. ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَٱخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لآياتٍ لِأُولِي الأَلْبابِ ﴿١٩٠﴾ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿١٩١﴾ (سورة آل عمران).


حفظُ اللهُ مصرَ مِن كيدِ الكائدِين، وحقدِ الحاقدِين، ومكرِ الـماكرِين، واعتداءِ الـمعتدِين، وإرجافِ الـمُرجفِين، وخيانةِ الخائنِين.


عبادَ اللهِ: اذكرُوا اللهَ يذكرْكُم واستغفرُوه يغفرْ لكم وأقمِ الصلاةَ. 


كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه

        فضيلة الدكتور/ محمد حرز

        إمام بوزارة الأوقاف المصرية


 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك