لقد كان اهتمام أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وغيرهن من الصحابيات بحفظ القرآن الكريم وتعلم معانيه وتعليمه منذ نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم كاهتمام بقية الصحابة علي حد سواء, ولذا وجدنا فيهن حافظات وقارئات لكتاب الله ومفسرات لمعانيه وعالمات بأحكامه.
فممن اشتهر بحفظ القرآن الكريم من أمهات المؤمنين عائشة وحفصة وأم سلمة رضي الله عنهن, وقد عدهن أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره من العلماء والقراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وساق الترمذي في كتاب القراءات من سننه روايات عدة روتها أم المؤمنين عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما توضح أوجها لقراءات القرآن في بعض السور, وتدل هذه القراءات على عناية أمهات المؤمنين بحفظ كتاب الله ونقله كما سمعنه على تنوع قراءاته.
ولم يقتصر حفظ القرآن على أمهات المؤمنين بل حفظه غيرهن من الصحابيات كأم ورقة بنت نوفل رضي الله عنها حيث جمعت القرآن الكريم كله, فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما غزا بدرا قالت له: ائذن لي في الغزو معك، أمرض مرضاكم, لعل الله يرزقني شهادة, قال: «قري في بيتك فإن الله يرزقك الشهادة», فكانت تسمي الشهيدة, وكانت قد قرأت القرآن, وكانت قد دبرت غلاما لها وجارية, فقاما إليها بالليل فغماها بقطيفة لها حتى ماتت وذهبا, فأصبح عمر فقام في الناس فقال: من كان عنده علم من أمر هذين فليجئ بهما, فأمر بهما فصلبا, فكانا أول مصلوب بالمدينة, (سنن أبي داود 1/161).
ولقد كانت لأمهات المؤمنين عناية خاصة بالمصاحف واتخاذها والأمر بكتابتها لهن, فعن أبي يونس مولى عائشة أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة:238].
فلما بلغتها آذنتها, فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى(وصلاة العصر) وقوموا لله قانتين, قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (رواه مسلم 1/734).
وقد أورد مالك عن عمرو بن رافع أنه كان يكتب مصحفا أيضا لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها, (الموطأ 1/931), بل إن المصحف الإمام الذي جمع وكتب أيام خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه محفوظ عند أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها, ثم كان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقية حياته, ثم تركه عند حفصة رضي الله عنها, حتى طلب عثمان بن عفان رضي الله عنه الصحف التي عندها، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان, فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف, ثم رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.وبذلك كان لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها دور كبير في حفظ القرآن الكريم وتوحيد الأمة كلها على مصحف واحد.
ولم يقف دور أمهات المؤمنين عند ذلك بل اعتنين رضوان الله عليهن بكتاب الله عز وجل تفسيرا واستنباطا للأحكام, فقد عرف عن أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما تفردهما بمناهج مميزة في تفسير القرآن الكريم, فلقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تفسر القرآن الكريم بالاستعانة بالسنة النبوية الشريفة, كما تفسره باستخدام أسباب النزول, وتفسره تفسيرا لغويا أدبيا يقوم على امتلاكها القدير لناصية اللغة والبيان وإدراكها القوي الحساس لأسرار اللغة والبلاغة, ومن ذلك ما رواه عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة:158] فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي, إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت: لا جناح عليه أن لا يطوف بهما, ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية.
تلك كانت بعض صور عناية الصحابيات في العهد النبوي وبعده بحفظ القرآن وتدبره ومعرفة معانيه وتعليمه المسلمين, وهذا كان دورهن الذي أقامهن الله فيه –كالرجال- لحفظ كتابه مصداقا لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9], فرضي الله تعالى عنهن وعن الصحابة أجمعين.
أسئلة الزائرين