من الآداب التي ينبغي أن يتحلي بها المفتي، والتي قد تصل إلى الشروط في أيامنا هذه، التيسير على الناس، وإدخالهم في دين الله، وإلقاء الستر عليهم، والعمل على جعل الناس متبعين لقول معتبر في الشرع، فذلك خير لهم من تركهم للدين بالكلية، وإيقاعهم في الفسق، مما يعد صدا عن سبيل الله من حيث لا يشعر العالم، إذن فالمقصد الأساسي الذي يسعى لتحقيقه المفتي هو إحداث آلية شرعية للتعامل مع التراث الفقهي الإسلامي؛ بحيث لا تخرج عنه ولا يكون عائقا للمسلم المعاصر، وأن ذلك لا ينبغي الإنكار عليه لأن الرأي الذي سينتهي إليه محل خلاف، وأساس هذا قاعدة: من ابتلي بشيء مما اختلف فيه فليقلد من أجاز.
والتيسر الذي نقصده وتتبع الرخص هو ما نقل تعريفه ابن أمير الحاج حيث قال: أي أخذه من كل منها - أي المذاهب - ما هو الأهون فيما يقع من المسائل (ولا يمنع منه مانع شرعي) «راجع التقرير والتحبير شرح التحرير، لابن أمير الحاج، ج3 ص 351 : عن الترخيص»، ونستخلص من ذلك أن تتبع الرخص جائز، ولكن بشروط وقيود لا ينبغي إهمالها، وهو مذهب أكثر العلماء، ومن أبرزهم العز بن عبد السلام، والقرافي، والعطار، وغيرهم من المحققين «راجع: العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام، ج2 ص135، والزركشي، البحر المحيط، ج6 ص325، والنووي، روضة الطالبين، ج8 ص 101، المرداوي، التحبير شرح التحرير ج8 ص 4110، وابن النجار، شرح الكوكب المنير، ج4 ص 577 و 590».
وجاء في ذلك المعنى نقول أخرى منها قول سفيان الثوري رحمه الله: (إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه) «حلية الأولياء ج6 ص 368»، وقال الإمام أحمد بن حنبل: (لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ويشتد عليهم)، «الآداب الشرعية لابن مفلح ج1 ص 166، وغذاء الألباب للسفاريني ج1 ص 223»، وقال الإمام الحنبلي ابن قدامة المقدسي: (وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام، مهد بهم قواعد الإسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة) «المغني، لابن قدامة، ج1 ص1».
إلا أن التيسير لا يقتصر على الفتوى فقط، بل يمتد إلى أمور أخرى من أهمها مراعاة أحوال المستفتي، ولذلك عدة وجوه، منها:
1- إذا كان المستفتي بطيء الفهم، فعلى المفتي الترفق به والصبر على تفهم سؤاله وتفهيم جوابه.
2- إذا كان بحاجة إلى تفهيمه أمورا شرعية لم يتطرق إليها في سؤاله، فينبغي للمفتي بيانها له زيادة على جواب سؤاله، نصحا وإرشادا، وقد أخذ العلماء ذلك من حديث أن بعض الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بماء البحر، فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (مسند الإمام أحمد)، وللمفتي أن يعدل عن جواب السؤال إلى ما هو أنفع، ومن ذلك قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة:215]، فقد سأل الناس النبي صلى الله عليه وسلم عن المنفق فأجابهم بذكر المصرف إذ هو أهم مما سألوا عنه.
3- أن يسأله المستفتي عما هو بحاجة إليه فيفتيه بالمنع، فينبغي أن يدله على ما هو عوض منه، كالطبيب الحاذق إذا منع المريض من أغذية تضره يدله على أغذية تنفعه.
4- أن يسأل عما لم يقع، وتكون المسألة اجتهادية، فيترك الجواب إشعارا للمستفتي بأنه ينبغي له السؤال عما يعنيه مما له فيه نفع ووراءه عمل، قال ابن عباس رضي الله عنه: (ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم). وقال ابن عباس لعكرمة: (اخرج يا عكرمة فأفت الناس، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عن نفسك الناس) «الذهبي في سير أعلام النبلاء ج5 ص 15».
5- وكذلك يترك الجواب وجوباً إذا كان عقل السائل لا يحتمل الإجابة لقول علي: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟) «البخاري»، وقال ابن مسعود: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) «البخاري».
فالتيسير على الناس والترخص لهم لإدخالهم في الدين خير من التعسير عليهم وإلزامهم بالقول الشديد، لما في ذلك من مخالفة لمنهج النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسبيل الصالحين من أسلافنا العلماء، ولما فيه من صد عن سبيل الله سبحانه وتعالى، رزقنا الله الفهم والإخلاص.
أسئلة الزائرين